فصل: فَصْل فيما ورد فِي فضيلة الرجَاء من الأحاديث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فيما ورد فِي فضيلة الرجَاء من الأحاديث:

ومِمَّا ورد فِي فضيلة الرجَاءَ من الأحاديث ما فِي الصحيحين عَنْ أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قتل تسعةً وتسعين نفسًا، ثُمَّ ندم وسأل عابدًا من عباد بني إسرائيل هل لَهُ من توبة فقَالَ لا فقتله وأكمل به مائةً، ثُمَّ سأل عالمًا من علمائهم هل لَهُ من توبة فقَالَ ومن يحول بينك وبين التوبة.
ثُمَّ أمره بالذهاب إِلَى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت فِي أثناء الطَرِيق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة الْعَذَاب، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كَانَ أقرب فهو مَنْهَا فوجدوه أقرب إِلَى الأَرْض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عَنْدَ الموت، وأن الله تبارك وتَعَالَى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلد أن تتباعد. هَذَا معنى الْحَدِيث.
وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، وأن مُحَمَّد عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق والنار حق، أدخله الله الْجَنَّة على ما كَانَ من الْعَمَل». متفق عَلَيْهِ. وَفِي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله حرم الله عَلَيْهِ النار».
وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ الله عز وجل من جَاءَ بالحسُنَّة فله عشر أمثالها، أو أزيد ومن جَاءَ بالسيئة فجزاء سَيِّئَة مثلها أَوْ أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأَرْض خطيئةً لا يشرك بي شَيْئًا لقيته بمثلها مغفرة». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جاء أعربي إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الموجبتان؟ قَالَ: «من مَاتَ لا يشرك بِاللهِ شَيْئًا دخل الْجَنَّة، ومن مَاتَ يشرك به شَيْئًا دخل النار». رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ».
وَفِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عَنْ الْجَنَّة». رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث عتبان قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ الله قَدْ حرم عَلَى النَّارِ من قَالَ لا إله إلا الله يبتغي بذَلِكَ وجه الله». متفق عَلَيْهِ.
وعن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أترون هَذِهِ المرأة طارحة ولدها فِي النار؟» قلنا: لا وَاللهِ. فقَالَ: «لله أرحم بعباده من هَذِهِ بولدها». متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله يَا ابن آدم إِنَّكَ ما دعوتني ورجوتني، غفرت لَكَ على ما كَانَ منك ولا أبالي، يَا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لَكَ، يَا ابن آدم إِنَّكَ لو أتيتني بقراب الأَرْض خطايا، ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شَيْئًا، لا تيتك بقرابها مغفرة». رَوَاهُ الترمذي.
وعنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن الكافر إِذَا عمل حسَنَةً أطعم بها طعمة من الدُّنْيَا، وأما المُؤْمِن فَإِنَّ الله تَعَالَى يدخر لَهُ حسناته فِي الآخِرَة ويعقبه رزقًا فِي الدُّنْيَا على طاعته».
وَفِي رواية: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسَنَةً يعطى بها فِي الدُّنْيَا ويجزى بها فِي الآخِرَة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفضى إِلَى الآخِرَة لم يكن لَهُ حسَنَةً يجزى بها». رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم فِي أَهْل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فِي جلد الثور الأسود أَوْ كالشعرة السوداء فِي جلد الثور الأحمر». متفق عَلَيْهِ.
وَفِي حديث ابن عباس قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ما من رجل مُسْلِم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بِاللهِ شَيْئًا إلا شفعهم الله فيه». رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث أبي هريرة فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اذهب فمن لقيت وراء هَذَا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهَارَ ويبسط يده بالنَّهَارَ ليتوب مسيء الليل حَتَّى تطلع الشمس من مغربها». رَوَاهُ مُسْلِم.
تَتَبَّعْ مَرَاضِي اللهَ وَادْعُ وَالْحِفَا ** لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتَسْعَدا

وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ** وَلاتتوانى عَندما تسمع الندا

عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِن يوم القيامة من ربه حَتَّى يضع عَلَيْهِ كنفه فيقرره بذنوبه فَيَقُولُ: أتعرف ذنب كَذَا أتعرف ذنب كَذَا فَيَقُولُ: ربي أعرف، قَالَ: فإني سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فيعطى صحيفة حسناته». متفق عَلَيْهِ.
وينبغي لمن قربت مفارقته الدُّنْيَا أن يكون على باله ما تقدم من آيات الرجَاءَ وأحاديث الرجَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
نَادَتْ بِوَشْكَ رَحِيلِكَ الأَيَّامُ ** أَفْلَسَتْ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ

وَمَضَى أَمَامَك مَنْ رَأَيْتُ وَأَنْتَ لِلْـ ** بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ

مَا لِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى ** عِبَرًا تَمُرُّ كَأَنَّهُنَّ سِهَامُ

تَأْتِي الْخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا ** فَإِذَا مَضَتْ فَكَأَنَّهَا أَحْلامُ

قَدْ وَدَّعَتْكَ مِن الصِّبَا نَزَوَاتُهُ ** فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعْدَهُنَّ مَقَامُ

وَأَرْضَ الْمَشِيبَ مِن الشَّبَابِ خَلِيفَةً ** فَكِلاهُمَا لَكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ

وَكِلاهُمَا حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ ** وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ

وَلَقَدْ غَنِيتَ مِنَ الشَّبَابِ بِغِبْطَةٍ ** وَلَقَدْ كَسَاكَ وِقَارُهُ الإِسْلامُ

أَهْلاً وَسَهْلاً بِالْمَشِيبِ مُؤَدِّبًا ** وَعَلَى الشَّبَابِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ

مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ** إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ

وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ** أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَاب رُكَامُ

وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوَتْ وَكَمْ ** جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ

وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ ** تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ

فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ ** أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لِجَلالِهِ ** وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَحْلامُ

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ لَمْ يَزَلْ ** لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ

سُبْحَانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ ** وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإِكْرَامُ

اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغار إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لَنَا ولوالدينا ولجميع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في وجوب الجمع بين الرجاء والخوف:

إِذَا فهمت ما تقدم فاعْلَمْ أن الْعَبْد المُؤْمِن لابد أن يجمَعَ بين الرجَاءَ والخوف، وَهَذَا الطَرِيق هُوَ طَرِيق الاعتدال، لأنه إن غلب عَلَيْكَ الرجَاءَ حَتَّى فقدت الخوف البتة وقعت فِي طَرِيق الأمن من مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وإن غلب عَلَيْكَ الخوف حَتَّى فقدت رجَاءَ الله وقعت فِي طَرِيق اليأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وإن جمعت بين الخوف والرجَاءَ فهو طَرِيق أَوْلِيَاء الله وأصفيائه.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وجملة الأَمْر أنَّكَ إِذَا تذكرت سعة رحمة الله تَعَالَى التي سبقت غضبه ووسعت كُلّ شَيْء ثُمَّ أن كنت من هَذِهِ الأمة المرحومة الكريمة على الله تَعَالَى ثُمَّ غاية فضله العَظِيم وكمال جوده الكريم وجعل عنوان كتابه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ كثرة أياديه إليك ونعمته عَلَيْكَ ظاهرة وباطنة من غير شفيع أَوْ قدم سابقة لَكَ.
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا ** عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلانِي وَإِسْرَارِي

أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ** فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي

آخر:
أَيَا رَبِّ قَدْ أَحْسَنْتَ عَودًا وَبَدْأَةً ** إِليَّ فَلَمْ يَنْهَضْ بِإِحْسَانِكَ الشُّكْرُ

فَمَنْ كَانَ ذَا عُذْرٍ لَدَيْكَ وَحُجَّةٍ ** فَعُذْرِي إِقْرَارِي بِأَنْ لَيْسَ لِي عُذْرُ

وتذكرت من جانب آخر كمال جلاله وعظمته وعظم سلطانه وهيبته ثُمَّ شده غضبه الَّذِي لا تَقُوم لَهُ السماوات والأَرْض، ثُمَّ غاية غفلتك وكثرة ذنوبك وجفوتك مَعَ دقة أمره، وخطر معاملته فِي إحاطة علمه وبصره بالعيوب والغيوب، ثُمَّ حسن وعده وثوابه الَّذِي لا يبلغ كنهه الأوهام وشدة وعيده وأليم عقابه الَّذِي لا يحتمل ذكره الْقُلُوب.
تَارَّة تنظر إِلَى عذابه وتَارَّة تنظر إِلَى رأفته ورحمته، وتَارَّة تنظر إِلَى نفسك فِي جفواتها وجناياتها فإذا فعلت ذَلِكَ أدى بك جميع ذَلِكَ إِلَى الخوف والرجَاءَ وَكُنْت قَدْ سلكت سبيل الشارع الْقَصْد وعدلت من الجانبين المهلكين، الأمن واليأس ولا تتيه فيهما مَعَ التائهين، ولا تهلك مَعَ الهالكين وشربت الشراب الممزوج العدل فلا تهلك ببرودة الرجَاءَ الصرف، ولا بحرارة الخوف الصرف.
وكأني بك قَدْ وصلت إِلَى المقصود غانمًا وشفيت من العلتين سالمًا ووجدت النفس قَدْ انبعثت للطاعة ودانت فِي الخدمة ليلاً ونهارًا من غير فترةٍ ولا غَفْلَةٍ، واجتنبت المعاصي والمخازي وهجرنها وصرت حينئذ من الأصفياء الخواص العابدين، الَّذِينَ وصفهم الله تَعَالَى بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
وَاللهُ سُبْحَانَهُ المسئول أن يمدك وإيانَا بحسن توفيقه وتسديده إنه أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وأجود الأجودين ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلي العَظِيم.
اللَّهُمَّ إنََّا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الْحَبِيب بحبيبه عَنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إِلَى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: الْقَلْب فِي سيره إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجَاءَ جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مَاتَ الطائر متى فقَدْ الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وقِيْل أكمل الأَحْوَال الاعتدال. اهـ. قَالَ الله تَعَالَى مخبرًا عَنْ أوليائه وأصفيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقَالَ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقِيْل: إن كَانَ الغالب على الْقَلْب الأمن من مكر الله فالخوف أفضل وَكَذَا إن كَانَ الغالب على الْعَبْد المعصية، وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ اليأس والقنوط فالرجَاءَ أفضل.
والَّذِي تطمئن إليه النفس سلوك الاعتدال إلا عَنْدَ فراق الدُّنْيَا فيغلب جانب الرجَاءَ.
لما ورد عَنْ جابر رضي الله عنهما أنه سمَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يَقُولُ: «لا يموتن أحدكم إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ». رَوَاهُ مُسْلِم.
وقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي وأنَا معه حيث ذكرني». الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة وقَدْ رئي بَعْضهمْ بعد موته فسئل عَنْ حاله فأنشد:
نُقِلْتُ إِلَى رِمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقَهَا ** وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي تَعْثُرُ

فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَؤُوفًا وَأَنْعُمًا ** حَبَانِي بِهَا سَقْيًا لِمَا كُنْتُ أَحْذَرُ

وَمنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِ في حَالِ مَوْتِهِ ** جَمِيلاً بِعَفْوِ اللهِ فَالْعَفْوُ أَجْدَرُ

آخر:
رَجَوْتُكَ يَا رَحْمَنُ إِنَّكَ خَيْرُ مَنْ ** رَجَاهُ لِغُفْرَانِ الْجَرَائِمِ مُرْتَجِي

فَرَحْمَتُكَ الْعُظْمَى الَّتِي لَيْسَ بَابُهَا ** وَحَشَاكَ فِي وَجْهِ الْمُسِيء بِمُرْتَج

آخر:
يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ يَبْتَهِلُوا ** وَكُلُّ حَيّ عَلَى رُحْماهُ يَتَّكِلُ

يَا مَنْ نَأَى فَرَأى مَا فِي الْقُلُوبُ وَمَا ** تَحْتَ الثَّرَى وَحِجَابُ اللَّيْلِ مُنْسَدِلُ

يَا مَنْ دَنَا فَنَأَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْـ ** أَفْكَارُ طُرًّا أَوْ الأَوْهَامُ وَالْعِلَلُ

أَنْتَ الْمَلاذُ إِذَا مَا أَزْمَتٌ شَمِلَتْ ** وَأَنْتَ مَلْجَأُ مَنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ

أَنْتَ الْمُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ حَادِيَةٍ ** أَنْتَ الإِلهُ وَأَنْتَ الذُّخْرُ وَالأَمَلُ

أَنْتَ الْغِيَاثُ لِمَنْ سُدَّتْ مَذَاهِبُهُ ** أَنْتَ الدَّلِيلُ لِمَنْ ضَلَّتْ بِهِ السُّبُلُ

إِنَّا قَصَدْنَاكَ وَالآمَالُ وَاقِعَةٌ ** عَلَيْكَ وَالْكُلُّ مَلْهُوفٌ وَمُبْتَهِلُ

فَإِنْ غَفَرْتَ فَعَنْ طُولٍ وَعَنْ كَرَمٍ ** وَإِنْ سَطَوْتَ فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الْعَدِلُ

وأخَرَجَ الإِمَام أحمد وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي عَنْ حيان أبي النضر قَالَ: خرجت عائدًا ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع وَهُوَ يريد عيادته، فدخلنا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل واثلة حَتَّى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه، فقَالَ لَهُ واثلة: كيف ظنك بِاللهِ؟ قَالَ: ظني بِاللهِ حسن. قَالَ: فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله».
وروى الطبراني عَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: والَّذِي لا إله غيره لا يحسن عبد بِاللهِ الظن إلا أعطاه ظنه، وَذَلِكَ بأن الْخَيْر فِي يده.
وروى البيهقي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بعبد إِلَى النار فَلَمَّا وقف على شفتها التفت فقَالَ: أما وَاللهِ يا رب إن كَانَ ظني بك لحسن فقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوه أَنَا عَنْدَ حسن ظن عبدي بي».
ولما حضرت الإِمَام أحمد الوفاة قَالَ لولده عَبْد اللهِ: أذكر لي أحاديث الرجَاءَ، وأنشد بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ:
أَرَانِي إِذَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِتَوْبَةٍ ** تَعَرَّضَ لِي مِنْ دُونِ ذَلِكَ عَائِقُ

تَقَضَّتْ حَيَاتِي فِي اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ ** وَأَعْمَالِ سُوءٍ كُلُّهَا لا تُوَافِقُ

طُرِدْتُ وَغَيْرِي بِالصَّلاحِ مُقَرَّبٌ ** وَدُونَ بُلُوغِي مَسْلَكٌ مُتَضَايقُ

وَكَيْفَ وَزَلاتُ الْمُسِيءِ كَثِيرَةٌ ** أَيَقْرُبُ عَبْدٌ عَنْ مَوَالِيهِ آبِقُ

إِلَى اللهِ أَشْكُو قَلْبَ سُوءٍ قَدْ احْتَوَى ** عَلَيْهِ الْهَوَى وَاسْتَأْصَلَتْهُ الْعَلائِقُ

وَلِي حُزْنٌ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ** وَدَمْعُ جُفُونِي لِلْبُكَاءِ يُسَابِقُ

فَإِنْ يَغْفِرْ الْمَوْلَى الَّذِي قَدْ أَتَيْتُه ** فَذَاكَ الرَّجَا وَالظَّنُّ حِينًا يُوَافِقُ

عَلامَةُ مَا يُولِي مِن الْفَضْل إِنْ أَنَا ** هَجَرْتُ الدُّنَا أَوْ قُلْتُ إِنَّكَ طَالِقُ

وَأَقْبَلْتُ فِي تَصْلِيحِ أَخْرَايَ مُدْلِجًا ** أُحَاسِبُ نَفْسِي كُلِّ مَا ذَرَّ وَشَارِقُ